تاريخياً وقبل ما يزيد على سبعين عاماً كانت العائلات الحاكمة في واد والمصريون في وادٍ آخر، ففي الوقت الذي كان فيه ملايين المصريين والفلاحين العاملين في ابعادية الباشا يموتون بالطاعون ومن الجوع قبل ثورة يوليو، كان ملوك وحكام مصر يعانون أيضاً من الإرهاق الشديد، وذلك بعد كل مباراة فروسية او رحلة صيد.
لقد عاش المصريون الحقيقيون قبل يوليو حياة بائسة، لكنها في ذات الوقت لم تكن أكثر بؤسا من مصر نفسها، لاسيما بعدما طغت فيها نسبة الامية والجهل وانتشرت بها الامراض الفتاكة، فلك أن تعلم بأن مصر قبل الثورة لم تكن كما تراها في بعض أفلام السينما او كما يروج لها عدداً من هؤلاء أصحاب نظرية الحنين الى مصر المملكة ومصر السلطنة، وخاصة في مثل هذه الأيام من كل عام، مع قرب الاحتفال بالثورة، فهم يقولون أن القاهرة كانت أجمل مدن العالم، والموضة فيها تظهر قبل ظهورها في باريس، وان السفرجي والجرسون والبواب والترزي والمصور كانوا إيطاليين وسودانيين ويونانيين.. في حقيقة الأمر ان هؤلاء لم يكذبوا أو يخطأوا في قولهم هذا، ولكن الأمر كان فقط من وجهة نظرهم، فهؤلاء الذين ذكروهم كانوا يعملون بالفعل في مصر، ويمتهنون تلك المهن، ولكن لخدمة طبقة الملوك والامراء والذين لم تكن تتعدى نسبتهم نصف في المئة أو لخدمة قوات الاحتلال وهم الذين جلبوهم من الخارج لهذا الغرض.
فلم تكن من باب الدعابة عندما سمعنا عن ان هناك مشروعا قوميا تبنته الحكومة لمقاومة الحفاء، وجمعت باسمه التبرعات فكانت النسبة الغالبة من المصريين والفلاحين على وجه الخصوص، إما عراه او حفاه الأقدام او أميين، أو يعانون من امراض قد تفشت ولا شفاء منها، وذلك بسبب حالة الفقر التي بلغوها، وقبل أن تعتقد عزيزي القارئ بأن هذا المشروع جاء رحمة من الحكومة والقصر، كانت حقيقة الأمر، غير ذلك فقد جاء بغرض صرف أنظار المواطنين عن ما يجرى بسبب الحرب العالمية الثانية، حيث قاربت حينها من الوصول الى الاسكندرية.
بلغت نسبة الأمية في الاعوام القليلة التي سبقت ثورة 23 يوليو أكثر من 90%، بينما بلغت نسبة البطالة حوالي 46%، بل والأخطر أيضاً ان نسبة المصابين بالبلهارسيا بلغت حوالي 45%.. ما اذكره ليس سُبة او تقليل من شأن الأجداد أصحاب الفضل، فتلك أمور قد كتبت عليهم، مرغمين لاحول لهم ولا قوة، حتى أنه كان حرام عليهم تملك الأراضي، تلك التي اعطوها من جهدهم وعرقهم، مضوا فيها سنوات شقاء، فكان السواد الأعظم من سكان الريف المعدمين يعملون أجراء لدى الملاك بأجورٍ لا تزيد على 3 قروش، في الوقت ذاته الذي كانت فيه تمنح الاراضي وتوهب هدايا للاعيان والاجانب، بدون مقابل، لمجرد قربهم من الحاكم وعائلته او حتى حاشيته.
ستندهش ايضا عندما تعلم ان مجلس نواب قبل يوليو، وجه رئيسه الدعوة لملاك الأراضي، بإقامة مساكن لائقة للفلاحين مثل تلك التي توفّر للماشية، وهو ما اعتبرته الصحافة في ذلك الوقت “دعوة لإفساد للفلاح، وتفتح الطريق أمام المبادئ الهدّامة”، وقبلها اعتبر السياسيون أن تعليم الفقراء خطر اجتماعي هائل، سيؤدي إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين كما سيؤدي إلى ثوراتٍ نفسية، وفريق آخر رأى أنه لا جدوى من تعليم أبناء الفلاح الجغرافيا والتاريخ، بل الأولى أن يتعلموا فقط عن أدوات الزراعة ومقاومة دودة القطن.
ظلت هذه الصورة القاتمة سنوات طويلة، لم يكن خلالها الفلاح أكثر من أجير في الابعادية او الوسية، يزرع ويحصد، يكد ويتعب، ولا يجد في نهاية يومه حتى الكفاف، الا ان القدر قد أبى أن يظل الاجداد على هذا الحال، عندما ثار المخلصون من ضباط الجيش، على تلك الاوضاع، فلم تكن ثورتهم بمعزل عن الوضع والحالة التي وصل المصريون لها، فكانوا انفسهم من أبناء الطبقة المتوسطة أو محدودي الدخل، فرغم ان الثورة كانت لتغيير اوضاع داخل الجيش، واصلاح حالة الوهن السياسي الذي شهدته البلاد في ذلك الوقت، الا انها ايضا تبنت على رأس أولوياتها مطالب اجتماعية هامة، كان من بينها القضاء على الإقطاع الذي سيطر على كل شيء، ورأس المال الذي استفحل وأصبح سيدا في ذلك التوقيت دون منازع.
تلك الامور جميعها كانت السبب الرئيس في نجاح الثورة، وتأييدها من جموع المصريين، والذين أيضا ظلوا يساندوا خطواتها، حتى ردت الثورة لهم الجميل في حينه بعد قوانين الاصلاح الزراعي وتحديد الملكية وتوزيع الفدادين على الفلاحين البسطاء، لتعود البسمة ترتسم على وجوههم من جديد، بعدما غيرت الثورة من حالهم، واصبحوا ملاكاً وأصحاب قرار.. رحم الله الزعيم جمال عبدالناصر وجنود الثورة المخلصين.. والسلام بداية وليس ختام!.
الرابط المختصر: https://avic-malr.com/?p=13624