الكثير من الشواهد تؤكد صدق مقولة ان مصر ليست دولة تاريخية ولكنها جاءت ثم جاء التاريخ، فعرفت الحضارة المصرية القديمة، الفنون والعمارة والعلوم والطب والهندسة والحساب، كذلك التوحيد، حيث نشأت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف نهر النيل، والذي حباه الله لمصر، وأدرك قيمته وفضله، وقدم له القرابين والشعائر والصلوات المقدسة، وخصصوا له عيدا اسموه “وفاء النيل”، وهو نفسه الذي قال فيه هيرودوت: “ان مصر هبة النيل”.
ومن هنا استقر المصري القديم، وشق طريقه ليخضر الوادي، وتثمر النباتات، وتعيش الحيوانات، بعد ان كانت حياته في العصر الحجري مجموعة من الترحال بحثا عن صيد الحيوانات ليتغذى على لحومها، ويكتسي بجلودها، ويسكن الكهوف.
لسنا من المؤرخين او ضمن المتخصصين في علم المصريات، او حتى من المتعمقين في دراسة الحضارات القديمة، ولكن السطور القادمة، خلاصة لمجموعة من الدراسات والشواهد التي انتهت الى ان المصري القديم من أوائل الذين برعوا في فنون الزراعة وأدواتها واختراع وسائل الري، والتنبؤ بالفيضان فضلا عن انه وضع أول تقويم عرفه التاريخ الانساني، فكانت مصر أول دولة نُظمت فيها الزراعة بمواعيد، ما يؤكد أن مصر دولة زراعية من البداية للنهاية.
الاستقرار على جانبي النهر الخالد
بدأت الحكاية منذ آلاف السنين، وقبل قيام الحضارات البشرية، حيث اكتشف الإنسان المصري القديم الزراعة، عن طريق الصدفة، ليقرر بعدها الاستقرار على جانبي النيل، ويتوقف عن الترحال، ليؤسس حضارة إنسانية عريقة، اعتمدت بشكل أساسي على الزراعة، فكانوا من أوائل من عرفوها، ومارسوها، وابتكروا وسائل الري ونجحوا في انبات المحاصيل الأساسية للحياة حيث نهر النيل وفيضاناته الموسمية، ليكتب تاريخًا طويلًا، بدأه بإنبات بذرة، نجحت في ان تسطر مجدا لن يمحوه الزمان، حيث تنبأ بالنهر والتربة الخصبة، مما مكنه من بناء إمبراطورية على أساس ثروة زراعية كبيرة، حيث أحسن استغلال الأرض والموارد الطبيعية لسد حاجاته.
القدماء المصريين تنبأوا بالفيضان وأسسوا امبراطورية زراعية كبرى
اعتمد المصريون القدماء على الفيضان لبدء موسم الزراعة، وتولوا حفر الترع والقنوات، حيث أوجز هيرودوت تلك الحالة، قائلا: “إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، لأنهم لا يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكى يجنوا من ورائه محصولاً من الحَبّ؛ ذلك بأن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر مأواه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره، فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحَبّ في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم جمع المحصول”.
الفلاح المصري القديم وريادة الابتكار الزراعي
وكان الفلاح المصري القديم، هو صاحب الريادة في الابتكار الزراعي، حيث استحدث الآلات الزراعية لتساعده على حرث وري الأرض، فاستعمل الفأس في عزق أرضه، كما ابتكر ايضاً المحراث في شق الأرض، فكان منه محراث يدوي، وآخر يجره الثور، كذلك المنجل، والمجرفة، والشوكة، والمنخل، كما ابتكر أيضاً الشادوف والذي كان يستخدمه في تسهيل الري، وهو الذي تجلت رسوماته في الآثار المصرية القديمة، كذلك آلة التسوية، والجرار، والشرشرة، كما استعانوا ايضا بأرجل الحيوانات في حرث الارض، وضم المحاصيل، ودرس الغلال، فتجدهم قد رسموا علي جدران مقابرهم منذ أقدم العهود كيفية زراعة الأرض بأنواع الأشجار والحبوب، وهي طرق لا تختلف كثيراً عن الزراعة في الوقت الحالي، ما يثبت بلا شك براعة الأجداد وعظمتهم في هذا المجال.
ارتباط آلهة القدماء بالزراعة وأبرز المحاصيل
واعتقد المصري القديم، بأن الخيرات التي تأتى بها الأرض ماهي إلا نعمة من نعم الآلهة وأهم هذه الآلهة في التاريخ الفرعوني والتي ارتبطت بالزراعة بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي أيضاً المنقوشة على جدران معابدهم ومقابرهم: “نبري” و “سخت” و”أوزوريس” و”إيزيس” و”سخمت” و”سيشات” و”حتحور” و”رننوت” و”حابى”، “رننوت ” “اوزير” “سوكر” و”مين”.
ولعل أبرز المحاصيل التي برع المصري القديم في زراعتها: القمح، الشعير، البصل والثوم والكراث والخس والفجل والكرنب والأسباراجوس (الهليون) والقثاء والعدس والبازلاء والفول والحمص والحلبة، والكثير من التوابل، والبردي كما زرعوا السمسم والكتان والخروع لاستخلاص الزيوت، كذلك أيضاً العنب، والجميز كما انتشرت زراعة النخيل والتين والرمان والزيتون والقاوون (البطيخ أو الشمام)، حيث استخدم تلك المحاصيل في غذاءه، واستخلاص الزيوت، والعلاج، وصناعة الخبز والجعة.
المواسم الزراعية وأعياد الحصاد
ومن واقع النقوش على جدران مقابر العظماء المصريون، فكان المصري القديم حسب ملاحظاته الشخصية، وما تقضيه طبيعة كل نبات، يقسم السنة الزراعية ثلاث أقسام متساوية تقابل ثلاث مراحل مختلفة في زراعة الأرض، فالفصل الأول والذي يبدأ من منتصف أكتوبر إلي بداية فبراير وهو فصل بذر الأرض وزراعتها، ثم من فبراير إلي يونيو وهو فصل الحصاد، ثم فصل الفيضان وذلك من منتصف يونيو إلي منتصف أكتوبر.
وكانت مواسم البذر والحصاد ونضج المحصول وجمعه لدى القدماء المصريين، أشبه بالأعياد العظيمة، فيقيمون لها الاحتفالات حيث تغمرهم السعادة، فيتغنوا على أنغام الناي، ويشارك الملك في هذا الاحتفال، كذلك كانت للزراعة دوراً في تكوين الأخلاق للمصريين القدماء، وكان خرق هذه الأخلاق تعتبر من كبائر الآثام التي يتبرأ منها يوم الحساب، إذ يشفع له عند الآلهة أنه لم يقلل مساحة الأرض الزراعية ولم يحجز ماء عن أرض زراعية أو تجنى على حقوق جيرانه من الفلاحين.
الجميع يعمل في أنشطة الزراعة
ولم يقتصر العمل في الحقل على الرجال فقط بل شارك فيه أيضا السيدات جنباً إلى جنب أزواجهن وكذلك الأولاد والبنات خاصة أيام الحصاد، وهو أيضاً المثبوت على جدران المعابد، من نقوش للسيدات والأطفال يعملون في الأنشطة الزراعية، حيث شكلت الزراعة في وجدان المصري القديم عقائد مبعثها إيمانه بالبعث والخلود مرة أخرى حيث رأى في نفسه أحد عناصر الكون كالشمس والقمر النيل والنبات فكما يتم كل منهم دورات حياة وموت ثم حياة، فأيقن أنه أيضا بعد الوفاة سوف يحيى مرة أخرى.
وكثيراً ما صور الملوك أنفسهم وهم يقومون برموز تشير إلى الزراعة وشق القنوات أو الترع ومن أكبر المشاريع الزراعية شق قناة الملك ” سنوسرت ” الثالث من عهد الأسرة الثانية عشر بالدولة الوسطى لربط النيل بالبحر الأحمر واضافة أراضي زراعية على جوانبها.
كل تلك الشواهد المثبوتة تؤكد أن الزراعة في مصر القديمة لعبت الدور الرئيس في تشكيل الحضارة المصرية، والتي قامت على الاستقرار في وادي النيل وارتباط المصري بأرضه وإقامة حضارة عظيمة أساسها الزراعة، نمت فيه روح الارتباط والانتماء لها، بل والأكثر من ذلك انه كانت للزراعة فضل كبير في ابتكار العلوم، فالكتابة الهيروغليفية نفسها مكونة من عدة رسوم لأشخاص وحيوانات ونباتات وأدوات زراعية وصناعية وحربية وعلمية ومنزلية.